وثيقة المدينة المنورة - وثيقة السلام في مجتمع متعدد الثقافات والأديان
«هذا كتاب من محمد النبي [رسول الله]، بين المؤمنين والمسلمين من قريش و[أهل] يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، 2.أنهم أمّة واحدة مِن دون الناس. 3.المهاجرون من قريش على رَبعتهم يتعاقلون بينهم وهم يَفدُون عانِيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 4.وبنو عَوف على رَبعتهم يتعاقلون معاقلَهم الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 5.وبنو الحارث [بن الخزرَج] على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 6.وبنو ساعِدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 7.وبنو جُشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 8.وبنو النّجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 9.وبنو عَمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 10.وبنو النَّبِيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 11.وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 12.وأنّ المؤمنين لا يتركون مُفرَحا (أي مثقلا بالدَّين وكثرة العيال) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. 12/ب.وأنْ لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. 13.وأن المؤمنين المتقين [أيديهم] على [كل] مَن بغى منهم، أو ابتغى دَسيعةَ (كبيرة) ظلمٍ، أو إثمًا، أو عدوانًا، أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولدَ أحدهم. 14.ولا يَقْتُل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر ولا ينصر كافرًا على مؤمن. 15.وأنّ ذمّة الله واحدة يجبر عليهم أدناهم، وأنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. 16.وأنّه مَن تبعنا من يهود فإنّ له النصرَ والأسوةَ غير مظلومين ولا مُتناصرين عليهم. 17.وأنّ سِلم المؤمنين واحدةٌ، لا يُسالِم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم. 18.وأنّ كل غازية غَزَت معنا يعقب بعضها بعضًا. 19.وأن المؤمنين يُبِيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. 20.وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدًى وأقومه، 20/ب.وأنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن. 21.وأنّه مَن اعتَبط مؤمنًا قتلا عن بيّنة فإنه قَوَدٌ به إلا أن يرضى ولي المقتول [بالعقل]، وأن المؤمنين عليه كافّةً ولا يحلُّ لهم إلا قيام عليه. 22.وأنّه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن يَنصر مُحدِثًا (مجرما) ولا يُؤوِيه، وأن من نصره أو آواه فإنّ عليه لعنةَ الله وغضبَه يوم القيامة، ولا يُؤخذ منه صرف ولا عدل. 23.وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردَّه إلى الله [عز و جل]وإلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ]. 24.وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا مُحاربين. 25.وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم إلا من ظلَم وأثم، فإنه لا يُوتِغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيتِه. 26.وأنّ ليهود بني النّجّار مثل ما ليهود بني عوف. 27.وأنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. 28.وأنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. 29.وأنّ ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف. 30.وأنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. 31.وأنّ ليهود بني ثَعلَبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا مَن ظلم وأَثم فإنّه لا يُوتِغ إلا نفسَه وأهلَ بيته. 32.وأنّ جَفْنَةَ بطنٌ مِن ثعلبة كأنفسهم. 33.وأنّ لبني الشُّطَيبَة مثل ما ليهود بني عوف، وأنّ البرَّ دون الإثم. 34.وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم. 35.وأن بطانة يهود كأنفسهم. 36.وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد [ صلى الله عليه وسلم ]. 36/ب.وأنّه لا يَنحَجِز على ثأرِ جُرحٍ، وأنه مَن فَتَك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظَلم، وأنّ الله على أبَرِّ هذا. 37.وأنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأنّ بينهم النصر على مَن حاربَ أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم. 37/ب.وأنه لم يأثم امرؤٌ بحليفه، وأنّ النصر للمظلوم. 38.وأنّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 39.وأنّ يَثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة. 40.وأنّ الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثِم. 41.وأنّه لا تُجار حرمةٌ إلا بإذن أهلها. 42.وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة مِن حَدث أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإنّ مَرَدَّه إلى الله [عز و جل] وإلى محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبَرِّه. 43.وأنّه لا تُجار قريش ولا مَن نَصَرها. 44.وأنّ بينهم النصر على مَن دهم يثرب. 45.وإذا دُعوا إلى صلح يُصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دَعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا مَن حاربَ في الدِّين. 45/ب.على كل أناس حِصَّتهم مِن جانبهم الذي قِبَلهم. 46.وأنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البِرّ المحض مِن أهل هذه الصحيفة، وأنّ البِرّ دون الإثم لا يَكسِب كاسب إلا على نفسه، وأنّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبَرِّه. 47.وأنه لا يحول هذا الكتابُ دون ظالمٍ أو آثم، وأنه مَن خرجَ آمِنٌ ومن قعد آمِنٌ بالمدينة، إلا مَن ظلم وأثم، وأنّ الله جارٌ لمن بَرَّ واتّقى ومحمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ].»
المبادئ الأساسية في الوثيقة
المبدأ الأول: يجب على كل مشروع مثالي يريد تحقيق الحق والعدل واحترام القانون والحقوق ويهدف إلى تحقيق السلام والاستقرار بين الناس أن يظهر بين الجماعات المختلفة (من الناحية الدينية أو السياسية أو الفلسفية...الخ) على أساس من معاهدة وعقد. ويجب حضور جميع الأطراف الاجتماعية أو مَن يمثّلونها في أثناء تهيئة ووضع هذه المعاهدة أو العقد، وأن يتم هذا في جوّ من الحرية والحوار والمباحثة والمذاكرة بين هذه الأطراف.
ونظراً لكون هذه الأطراف جماعات غير متجانسة كان من الضروري أن تكون كل مادة من مواد الوثيقة تحمل طابع المشاركة وطابع الالتقاء بين هذه الأطراف، وأن تُسجَّل نتيجة التصويت عليها. وكل مادة متَّفَق عليها تشكل حكماً من أحكام الوثيقة، وكل مادة تكون موضع خلاف بين الأطراف تُترك لهذه الأطراف. فالفقرات المُجمَع عليها تدخل في ساحة المعاهدة، والفقرات المختلف عليها تدخل في مجال الحرية الذاتية (أو الحكم الذاتي). وهذا دليل على الاختلاف الثريّ الموجود ضمن الوحدة، أي هو «الجماعية» الصحيحة.
المبدأ الثاني: وهو اختيار مبدأ «المشاركة» بدلاً من مبدأ «التحكّم»، لأنه في ظل الحكم السياسي الدكتاتوري لا يتم قبول التنوع والاختلاف، بينما نرى أن وثيقة المدينة تذكر أسماء القبائل المسلمة وأسماء القبائل اليهودية قبيلة تلو قبيلة، كما تشير إلى المشركين في مادة أخرى (المادة: 20/ب). وكلمة «المولى» الواردة في الوثيقة تشير إلى القبائل والعشائر والمجموعات التي دخلت في عهد أو اتفاق مع إحدى القبائل دون وجود أي قرابةِ دم معها. وهذا يعني أن كل طرف من الأطراف الاجتماعية التي وقّعت على هذه الوثيقة كان يمثل أيضاً القبائل والمجموعات المرتبطة بها، وكان يعطي نفس الحقوق والمسؤوليات لها. إلا أن المادة رقم «20/ب» كانت تشير إلى أحكام خاصة بالنسبة للمشركين العرب، وكانت هذه الأحكام تؤيَّد بالمادة رقم «43» كذلك. وكانت الغاية من هذه الأحكام منع مشركي المدينة من أي تعاون مع مشركي مكة سياسياً كان أم عسكرياً. هذا علماً بأن مشركي المدينة لم يكونوا يحملون أيّ رغبة في التعاون مع مشركي مكة، لأنهم كانوا يخافون من أن يجلب هذا التعاون مشاكل لهم. ولكنهم كانوا يرغبون في التمتع داخل دولة المدينة (الموضَّحة في المادة: رقم 39) بكل الحقوق والحريات مع الآخرين. وقد قامت الوثيقة بتأمين وضمان هذه الحقوق والحريات لهم أيضاً وعلى أساس من القانون. ونحن نعلم بأن مشركي المدينة -وهم طرف في وثيقة المدينة- استمروا في العيش في المدينة حتى بعد معركتَي بدر وأُحد اللتَين جرَتا مع مشركي مكة، ولم يحدث أيّ مشاكل بينهم وبين المسلمين.
ونستنتج مما تقدم أن كل مجموعة دينية وعرقية كانت تملك حرية ثقافية وحقوقية؛ أي إن موقف كل طـرف من ناحية الدين وتشريع القوانين المتعلقة بالمجتمع والمحاكمة والثقافة والتجارة والفن والعبادة وتنظيم الحياة اليومية...الخ، مواقف هذه المجموعات والطوائف المختلفة ستبقى كما هي وكما ترغب وتستطيع التعبير عن نفسها في هذه الساحات بحرّية من خلال المقاييس القانونية والثقافية.والمادة التي كانت تَضمن هذه الحقوق هي المادة رقم «25».
أما المادة رقم «42» فتذكر بأنه في حالة ظهور أي خلاف يخشى من عواقبه يتم الرجوع فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . والظاهر من الآيات القرآنية ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مصادر السيرة النبوية فإن هذه المادة قد اقتُرحتْ من قبل اليهود والمشركين. لأن الوضع الفوضوي في المدينة كان قد هز الثقة والاطمئنان بين القبائل. لذا فقد اتفق جميع الأطراف على رفع المشاكل التي لا يستطيعون حلَّها إلى مرجع أعلى يقوم بحلّها. وكان هذا المرجع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مرجعاً محايداً أتى من خارج المدينة. وكان القرآن الكريم يذكر له أن بِوُسعه النظر في دعاوى القوم إن أراد ذلك ويعطيه هذه الصلاحية ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ (المائدة: 42). وعلى إثر هذه الآية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخيّر مَن يراجعه منهم وكان يسألهم ما إذا كانوا يريدون أن يحكم بينهم بالقرآن أم بالتوراة؛ أي إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في موضع «الحَكَم» وليس في موضع «الحاكِم». ويجب أن نضيف هنا أن النظر في قضايا غير المسلمين أو إعطاء حق حل مشاكلهم ودعاويهم -لا سيما الدعاوى المدَنية منها- في محاكمهم وضمن قوانينهم أصبح منذ ذلك اليوم حقّاً من حقوق الذميين، واستمر هذا الأمر حتى نهاية الدولة العثمانية.
أما المادة «23» فكانت تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم المطلق في الأمور الدينية للمسلمين، ولكنه يستشير الآخرين في المسائل الإدارية. وكان هذا أمراً طبيعيّاً، لأن المسلمين كانوا قد بايعوه ورضوا بالارتباط به والانقياد له منذ البداية. وهو أمر مناسب لأسس الدين الإسلامي الذي لا يفرق بين العبادة والحقوق. وهذه المادة -كمَبدَأ أساسيٍّ- تؤكّد أن الدين الإسلامي يُلزم المسلمين فقط.
والذين يتّهمون الإسلام ويَصِمونه بالدكتاتورية لا يعرفون هذه الحقيقة تمام المعرفة. لأن الناس إن كانوا أحراراً في اختيار دينهم ولهم مثل هذا الحق فإن هذا يؤدي -ويعني أيضاً- أن الأشكال المختلفة للحياة الاجتماعية والقوانين المرتبطة بها يجب أن تكون متلائمة مع الدين ومع الأفكار الدينية. وفي هذا الوضع فإن الدين الإسلامي والقوانين الإسلامية تلزم المسلمين فقط، ولا تَشمل الآخرين، ولا يُطلب من غير المسلمين التصرف حسب هذه القوانين. وهذا شرط -وكذلك ضمان- لحرية الدين والوجدان وحرية التعبير والسماح للآخرين بالعيش حسب أديانهم. وقد حقق الرسول صلى الله عليه وسلم هذين الشرطَين قبل 1400 سنة وتم تسجيلهما في إطار القوانين والحقوق، بينما لم يتحقق هذا حتى الآن في عصرنا الحالي.
كانت هذه الوثيقة عالمية وموضوعية وفَوق الطوائف الاجتماعية، أي لم يكن بوسع المسلمين واليهود والمشركين الخروج خارج نطاقها العام.
كان هذا وحده انقلاباً وثورة كبيرة. ففي هذه البنية القانونية الجديدة التي لا تتم فيها حماية المجرم من أي طائفة أو جماعة تتجلى العدالة وتسود الطمأنينة وتظهر وتُصبح مسؤولية اجتماعية مشتركة بين جميع الأطراف (المادة: 12 و 13 و 21). ويعني هذا أن الجرائم والعقوبات أصبحت فردية، وانمحى مفهوم الجرائم والعقوبات الجماعية. ولكن قيام قبيلة الجاني بدفع دية المقتول لم يكن يُخلّ في ظروف وجو ذلك العهد بهذا الأساس القانوني. كما كانت الفقرة «12/ب» تسمح للأشخاص بالقيام -خارج هذه الوثيقة- بعقد اتفاقات أخرى مع موالي الأشخاص الآخرين.
إن الناحية التي تهمنا في هذه الوثيقة أنها وثيقة مكتوبة في عام 622م، نتيجةَ مباحثات ومشاورات بين قطاعات دينية واجتماعية مختلفة، وأنها وضعت للتطبيق العملي.
هذا ويمكنا أن نستخرج كليات أساسية من أحكام هذه الوثيقة إن قمنا بعملية تجريد وتعميم لها، ومن ثم يمكن لهذه الكليات الأساسية أن تكون مصدر إلهام في حل كثير من المشاكل اليوم. وهناك العديد من الأحاديث والآيات والعديد من التجارب الذاتية والمحلية في تاريخ المسلمين، وكذلك العديد من أحكام الشريعة الإسلامية التي تؤيد المشروع الكبير الذي استهدفته هذه الوثيقة. وإن التجارب التي حفَل بها التاريخ الإسلامي في هذا الموضوع كانت انعكاساً لروح هذه الوثيقة بخطوطها العامة وشرحاً وتطبيقاً لها. إننا ونحن نعيش في هذا العصر مشاكل عدّة مثل النـزاع العربي الإسرائيلي والنـزاعات الإقليمية ودعوى صراع الحضارات والعمليات الإرهابية نرى أننا في حاجة ماسّة إلى مشاريع تتخذ من التعاقد والحوار والمباحثات أساساً لها، أي نحتاج إلى مشاريع تؤمن بالتعددية وتسعى لها.
ارجوا الاستفادة للجميع