مناقشة أدلة المذهب الأول:-1 الدليل الأول : في قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء .. الخ ) لا تعارض بين هذه الآية وقضاء المرأة لأن الآية نزلت بخصوص جواز تأديب الرجل لزوجته وإنفاقه عليها ، وتقديم المهر لها وكفايته إياها سائر متطلباتها المعيشية والأدبية ، وقد وضحها المفسرون من هذا المنطلق. فقد قال الطبري في تفسيره حول الآية الكريمة : أي أن الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهن : (بما فضل الله بعضهم على بعض) : يعني بما فضل الله به الرجال على أزواجهم من سوقهم إليهن مهورهن وإنفاقهم عليهن أموالهن وكفايتهم إياهن مؤنتهن، وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهن، ولذلك صاروا أقواماً عليهن نافذي الأمر عليهن، فيما جعل الله إليهم من أمورهن.ثم أورد الطبري رواية عن ابن المبارك قال : سمعت سفيان يقول : بما فضل الله بعضهم على بعض : قال بتفضيل الله الرجال على النساء وذكر أن هذه الآية نزلت في رجل لطم امرأته، فخوصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لها بالقصاص فانزل الله الآية،ثم أكدها برواية أخرى عن محمد بن الحسين تؤيد الرواية الأولى التي أوردها عن ابن المبارك ، ونقل قول الزهري : ليس بين الرجل وامرأته قصاصاً فيما دون النفس، لذا لا نجد في الآية دلالة قطعية في منع المرأة من القضاء. الطبري محمد بن خالد أبو جعفر،جامع البيان في تفسير أي القرآن،ج2،ص452.
-2 الدليل الثاني : اما الدليل الثاني بقوله تعالى (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة )فهي لا تصلح أن تكون دليلاً فهي واردة وسط آيات تتعلق بالإيلاء والطلاق والعدة وزيادة درجة الرجل بعقله وقوته على الإنفاق والدية والميراث والجهاد(القرطبي،د.ت.ج3،ص107) .
أما أدلتهم من السنة المطهرة فالحديث الأول من قوله صلى الله عليه وسلم (لن يفلح قوم ولوا … الخ ) هذا الحديث ورد عنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى ، وأنه صلى الله عليه وسلم قصد به معنى الإمامة العظمى (والله أعلم )،( البخاري،ج4،ص1610،رقم4163). وعلى ذلك تقتصر دلالة الحديث ، فلا تشمل الولايات الأخرى كالقضاء أو الحسبة أو الوزارة بمفهومها الحديث.
وأما دليلهم من المعقول بقياس القضاء على الرئاسة العامة في منع المرأة عنها فلا نسلم بهذا القياس للاختلاف بين الولايتين من حيث السلطة والصلاحيات.
وأما دليلهم بأن المرأة ناقصة عقل قليلة الرأي : فليست هذه الصفة بجميع النساء، كما أن كمال العقل وسدادة الرأي لا يتصف بها كل الرجال، والتاريخ يشهد على نبوغ الكثير من النساء في ميادين الحياة، بل وصل البعض منهن لدرجة كبيرة من العلم في أمور كثيرة بين الصحابة ، مثال السيدة عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين وغيرها .
وكذلك يرد على قول عدم إمكان البروز منها محافل الرجال ومخالطتهن خوفاً من الافتتان بها، في الوقت الذي يتطلب القضاء مثل المحذور فذلك فيه قول أيضا بدليل مشاركة النساء ومخالطتهن الرجال في منابع العلم، وفي دور العبادة وفي ساحات الوغى لإسعاف المقاتلين وحمايتهم، وفي التجارة في الأسواق بشروط تحافظ على عفتها وعدم الخلوة وصونها، فما الفرق بين هذا وبين القضاء ،والقضاء أكثر حرمة من التجارة .
المذهب الثاني، الإباحة المطلقة لقضاء المرأة: وهو مذهب ابن جرير الطبري ورأي ابن حزم وابن طراز الشافعي . فقد ذهب إلى هذا الرأي الإمام محمد بن جرير الطبري ومحمد بن الحسن الشيباني وابن حزم الظاهري وابن طراز الشافعي وابن القاسم ورواية عن الإمام مالك، ومن المفكرين المحدثين القائلين بهذا المذهب محمد المهدي الحجوي ومحمد عزه دروزه ونادرة شنن واستدلوا على رأيهم بما يأتي :
الدليل الأول : ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ولى الشفاء بنت عبد الله العدوية (امرأة من قومه) ولاية السوق ، وكما هو معروف أن رقابة السوق والتي هي الحسبة ، تتعلق بالقضاء كل التعلق، بجانب كونهما من الولايات العامة التي ينيطها أمام المسلمين، أو نائبة إلى أشخاص معروفين بالعلم والعدل وسائر الأخلاق الفاضلة، للحفاظ على حقوق الناس ومصالحهم، وقد جعلها ابن خلدون من الولاية الكبرى أو من فروعها.(ابن خلدون ،د.ت.ج1،ص272.وابن هشام،د.ت.ج4،ص172). لذا فإن ما صلح أن يكون دليلاً على شرعية قيام المرأة بوظيفة الحسبة صلح أيضاً دليلاً على جواز تولية المرأة منصب القضاء.
الدليل الثاني: إن المرأة يجوز فتياها إذاً جاز قضاؤها قياساً لأن مدار القياس في الشريعة الإسلامية على العلة – وبما أن في صحة فتوى المرأة هو العلم التام بما تسأل عنه، فكذلك صحة قضائها متوقفة على العلم الوفير للأحكام الشرعية .) السرخسي ،د.ت.ج3،ص146.وابن قدامة،د.ت.ج12،ص501).
الدليل الثالث : ولكون الغرض سن الأحكام تنفيذ القاضي لها وسماع البينة عليها ، والفصل بين الخصوم منها ، وذلك يمكن من المرأة كإمكانه من الرجل لذا فإن حكم قضاء المرأة هو الجواز كقضاء الرجل مطلقاً .
الدليل الرابع : حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
لن يفلح قوم ...الخ) ليس بينه وبين منح المرأة حق القضاء تعارض حيث أن الحديث إنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر العام الذي هو الخلافة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (المرأة راعية عن مال زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها ) (صحيح البخاري،ج1،ص302،رقم853). وقد أجاز المالكيون أن تكون المرأة وصية ووكيله ولم يأتِ نص من منعها ان تلي بعض الأمور .
مناقشة أدلة المذهب الثاني: خبر تولية عمررضي الله عنه( الشفاء) ولاية السوق (الحسبة ). رده الكثير من العلماء منهم القرطبي وابن العربي وغيرهما، واعتبراه من دسائس المبتدعة في الأحاديث ، ونهيا عن الالتفاف إليه . ثم إن إبن حزم حينما ذكر الرواية في المحلى لم يسندها على خلاف صنيعه، وهذا يدل على عدم صحتها .ولان عمر رضي الله عنه المعروف بشدته وغيرته على الإسلام والمسلمين وكونه صاحب فكرة الحجاب : فقد ذكر أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري في كتابه أسباب النـزول : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم
يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر لو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب : فأنزل الله آية الحجاب وهي قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }الأحزاب59 .
ولذا فإن الرواية التي ذكرها ابن حزم ليست بصحيحة لأن عمر بن الخطابرضي الله عنه كان شديد الغيرة على نساء المسلمين، وقد روى عطاء عن ابن عباس أن عمررضي الله عنه رأى جارية من الأنصار متبرجة فضربها وكره ما رأى من زينتها، علماً بأنه قد ألزم النساء بأن يسيروا على جوانب الطريق، فكيف يولي إمراة ولاية تدعوها إلى الاختلاط مع الرجال ومزاحمتهم. وقوله تعالى في أية الحجاب الثانية: (...وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً }الأحزاب53 .
لا يقبل قياس قضاء المرأة على جواز تصديها للإفتاء ، وذلك لأن المفتية تستطيع ترك المخالطة للرجال بالحديث من وراء الحجاب ، أو الجواب بواسطة الكتابة ،أو الجواب بواسطة من يحل لها رؤيته كرواية عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنهما وهي خالته، في حين يحتاج القضاء للمشاهدة والاختلاط والمداولة مع الخصوم والشهود والقضاة الأخرين والكتبة والمحامين وغير ذلك، وكل ذلك محرم على المرأة المسلمة.اذا رافقه خلوة تؤدي الى شبهة اتيان ما حرم الله.
لا نسلم كون الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها وسماع البينة فيها فقط، حتى يتخذ هذا دليلاً على صحة قضاء المرأة مادام بإمكانها القيام بذلك بدليل الإمامة الكبرى ، فإن الغرض منها حفظ الثغور وتدوير الأمور وحماية البيضة وقبض الخراج ، ورده على مستحقيه، وذلك لا يأتي من المرأة كما يكون من الرجل ، أضف إلى ذلك أن المرأة ملزمة بإبتعادها عن الاختلاط بالرجال خوف الفتنة، والدليل على أن الإسلام في سبيل عدم الاختلاط بالرجال لم يفرض على المرأة صلاة الجمعة ولم يوجب عليها صلاة الجماعة، ولا يستحب لها إتباع الجنائز.