نشــأة القانـون:
لقد نشأت النظم القانونية تحت عوامل مختلفة نذكر منها:
ـ العقيدة: فالنماذج الدينيـة كان لهـا التأثيـر الكبيـر على الحضارات الإنسانية، "وهو ما أكد عليـــه بعض العلماء مثل (توينــبي، إيكيدا) حيث يقول إيكيدا:
(إنَّ النماذج الدينية هي أساس العمل الإبداعي في خلق الحضارات)".
ـ العامل السياسي والاقتصادي: فتطور المجتمع اقتصاديا يؤدي إلى تطور القواعد القانونية من أجل مسايرة التطور الحاصل والقانون في بلاد الرافدين دليل على ذلك، كما أن تطور أنظمة الحكم التي تسيطر على جماعة معينة يتبع تغير للقواعد القانونية التي يرتكز عليها النظام السابق.
ـ العامل الاجتماعي: فتطور العلاقات الاجتماعية في جماعة معينة يفرض إيجاد تفنينات قانونية جديدة لحكم هذه العلاقات.
لكن العوامل السابقة لا تفسر نشأة القانون وإنما تفسر تطور القانون بعد وجوده الأولي لذلك يطرح الباحثون في هذا الموضوع المزيد من الأسئلة:
كيف نشأ القانون؟ وما هي الصورة التي كان عليها وأتخذها في البداية، مع وجود الحاجة الإنسانية الفطرية لوجود قانون ينظم حياة الإنسان وعلاقاته داخل المجتمع؟
ذهب البعض بخصوص نشأة القانون ومراحل تطوره إلى القول بأنه مر بنفس المراحل التي مر بها تطور الإنسان على هذه الأرض:
ـ مرحلة التقاليد الدينية: سواءا كانت هذه التعاليم سماوية أو معتقدات أخرى فحيث أننا نسلم أن الإنسان الأول قبل هبوطه إلى الأرض كان محكوما بالأحكام الالاهية وفق ما ورد في القران الكريم في قول تعالى"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ "وعندما أهبط ادم عليه السلام إلى الأرض كان عاقلا ومدرك وليس متوحش وهمجي والدليل في قوله تعالى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" كما أن ظهور الأسرة الأولى كان خاضعا للقواعد الالاهية المنظمة للعلاقات بين الأفراد فقال تعالى"قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ". ومما يستأنس به في بيان هذا المعنى ما ورد عن بعض أئمة السلف في شرح قصة ابني أدم عليه السلام الواردة في القرآن الكريم في قوله تعالى "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ"، فقد ذكر ابن كثير في تفسيره لهذه القصة ما يلي"... ذكر السدّي عن ابن عباس وعن ابن مسعود: أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، كان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه، وقال هي أختي ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوج بها، وأنهما قربا قرباناً إلى اللّه عزَّ وجلَّ أيهما أحق بالجارية، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربانا هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب، وقال لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل {إنما يتقبل الله من المتقين}." فالملاحظ أن علاقة الزواج كانت في ذلك العهد مقننة ولها موانع مما يدل على وجود قواعد تنظيمية لا بد من احترامها في إبرام عقد الزواج.
كما أن من الأدلة الدامغة التي تدل على أن الإنسان بقي وجوده في الأرض محكوما بقواعد قانونية مستمدة من وحي الله عزّ وجّل ما روى ابـن حبان في صحيحه: (عن أبي ذرّ قال: قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة عشرون ألفا"، قلت يا رسول الله كم الّرسل منهم؟ قال:" ثلاثمائة وثلاث عشر جم غفير" قلت: يا رسول الله من كان أولهم قال: "أدم" قلت: يـا رسول الله: نبـي مرسل قال:"نعم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم سواه قبلا")، فالله سبحانه وتعالى لم يترك البشر همل بدون ضابط يحتكمون إليه في علاقاتهم به أو بين بعضهم البعض وكلما تزايد عدد البشر فوق الأرض وظهرت القبائل والمجتمعات المختلفة بعث الله سبحانه الرسل والأنبياء بقواعد إضافية لتنظيم العلاقات بالمجتمعات التي يبعثون إليها فكان أساس القاعدة القانونية أساسا دينيا منذ بداية حياة الإنسان فوق الأرض.
لكن المتفحص لتاريخ النظم القانونية لدى الشعوب القديمة يجد الكثير من القواعد والشرائع البعيدة كل البعد عن منهج الأنبياء وعن الفطرة السليمة، وقد أدى ذلك بالعديد من الباحثين وخاصة الغربيين منهم إلى اعتبار أن الإنسان الأول كان همجي ومتوحش وأن المجتمعات القديمة كانت لا تحتكم إلى قانون غير قانون القوة، فكيف تم ابتعاد هذه المجتمعات على الشرائع الالاهية وكيف تم خرق القواعد التي أتى بها الأنبياء؟
ويبدوا تفسيرا منطقيا وإجابة مقنعة على التساؤل المطروح أعلاه ما أورده الأستاذان المجذوب وعكاشة عند تحليلهم لظاهرة الصبغة الدينية للقاعدة القانونية في الحضارات القديمة وابتعادها عن منهج الأنبياء، حيث اعتبرا أن اهتزاز الإيمان لدى الكثير من الجماعات الإنسانية وهجرة بعض القبائل منها إلى مناطق نائية أدى بها إلى الابتعاد عن الأحكام والقواعد التي كان الرسل والأنبياء يقررونها، وشيئا فشيئا أدى ذلك إلى ظهور قواعد قانونية لدى هذه الجماعات فيها شيء من المسحة الدينية ولكنها في جوهرها مخالفة للقواعد التي أتى بها الأنبياء، فظهر الشرك وتأليه الملوك والرؤساء ووجد الكهان وتحولت القواعد القانونية إلى وحي الآلهة وإرادتها كما تصورته هذه الشعوب. وهنا صار مصدر القوانين مجموعة مـن التـقاليد الدينية، واعتبرت سرا لا يجوز الاطلاع عليه وبقيت حكرا على الملوك والحكام المؤلهين أو رجال الدين الدجالين، وقد أدى ذلك في كثير من الأحيان إلى الفوضى وسيادة مبدأ القوة كأساس للعلاقات بين الناس.
ـ مرحلة القوة والانتقام الفردي: وحيث أنه رغم وجود القواعد المنظمة في أي مجتمع فهذا لا يحول دون إساءة تطبيقها والخروج عيها، فبعدما تنكر معظم البشر إلى القواعد التنظيمية الإلهية وتمردوا عليها أصبح الأمر متروك إلى القوة المجردة من أي أساس أخلاقي، فالقوة هي التي تنشئ الحق وتحميه، وصارت القوة الوسيلة الأساسية من وسائل تنفيذ القواعد القانونية.
ـ مرحلة التقاليد العرفية: حيث انتقلت السلطة من الحكام المؤلهين ورجال الدين إلى الطبقات الشريفة في المجتمع وبفضل الصراع بين رجال الدين والحكام المؤلهين من جهة وبين الأشراف من جهة أخرى انفصل الحكم عن السلطة الدينية وحلت الأعراف محل التقاليد الدينية، فشيئا شيئا صارت القواعد القانونية تتراوح بين القواعد الدينية والقواعد العرفية بعدما استقرت نتيجة تطبيقها المتكرر.
ونتج عن كل هذا سيطرت طبقة الأشراف على السلطة السياسية واحتكارها للقانون وتفسيره لصالحها. كما صارت القاعدة القانونية قاعدة مدنية وليست دينية وصار الجزاء على خرقها جزاءا مدنيا ماديا وقد حصل هذا التطور عبر مراحل زمنية وفي ظروف تختلف من حضارة إلى أخرى.
- مرحلة التدوين: وتم ذلك بالكتابة، فهناك بعض المجتمعات دونت قانونها ونشرته بين الناس. وبهذا صار القانون معروفا بين الناس بعدما كان سرا يحتكر معرفته رجال الدين كما اكتسبت هذه المدونات أهمية شديدة واحترام كبير من قبل الناس، بسبب نسبتها إلى الآلهة بالنسبة إلى الحضارات التي بقيت القواعد القانونية فيها مختلطة بالقواعد الدينية، أو بسبب وضعها من قبل ملوك عظام، أو بسبب صدورها نتيجة أحداث سياسية واقتصادية واجتماعي هامة كما هو الحال بشأن الألواح الـ12 في الحضارة الرومانية، ويجب الإشارة في الأخير إلى أن هذه المدونات قد احتوت على الأعراف والتقاليد التي نظمت علاقات الأفراد قبل اكتشاف الكتابة وما جاءت هذه الأخيرة إلا كاشفة لوجودها